أنا تيس معاه فلوس! كانت سعاد حسنى محقه عندما قالت فى أحد أفلامها (فتاة الإستعراض) منتقده صاحب المال بالتيس، ضحكنا على حسن يوسف وهو يردد الكلمة أنا تيس معه فلوس، ولكننا للآسف لم نفهم المعنى الكامن بداخل تلك الجملة الحكيمة، فلقد خُدعنا، وانجرفنا خلف تيارات مضلله مقصوده أو غير مقصوده.
وأول خداع أخذناه من التربية الخاطئة من قبل أولياء أمورنا بل والتعليم الخاطىء، فتربينا أن ندرس لندخل كلية من كليات القمة لنعمل بعدها فى وظيفة مرموقة تحقق لنا الكثير من المال؛ وبهذا نكون حققنا النجاح ووصلنا للمراد.
وهكذا كنت أسمع من صغرى عن فلان الذى أصبح طبيبًا وفتح عيادة ثم مستشفى استثمارى، وآخر الذى سافر للخارج وعاد معه الملايين، وثالث عالم اخترع اختراعًا وحصل على الجنسية العالمية ودخله يقترب من دخل الرئيس، فتوجه تفكيرنا لكليات القمة؛ ثم فجأة تغير الإتجاه عندما شاهدنا أفلام تصور المتعلمين بالفقراء والجهلاء بالأغنياء، فتارة نرى أستاذ الجامعة تتركه خطيبته وتتزوج بجاهل ذو مال وجاه، وفيلم تلو الأخر نرى متعلم وظيفته لا تسمح له بحياة كريمه، إلى أن جاء مسلسل لن أعيش فى جلبات أبى وابهرنا، فكيف استطاع عبد الغفور البرعى الرجل الفقير الجاهل أن يحقق ثروه؟! لم يكن مجرد مسلسل أبدع فيه النجم الراحل نور الشريف بل كان مثل حقيقى ظهر فى مجتمعنا.
تكرر المثل فصرنا نشاهد فى الحياة الواقعية فقراء تبدلت أحوالهم لغنى فاحش، وعندما عرفنا السبب لم يبطل العجب ولكن زاد؛ وادهشتنا الدنيا! فالعلم الأكاديمى لم يعد هو سبب النجاح! وأصبحت الشهادة ليست مبرر لربح المال، فغيرنا الإتجاه وأصبح الشباب ينظر للبواب الذى َنبى عمارة والسمسار الذى أسس شركة مقاولات كبيرة، وغيرها من الأمثلة، وتساءل التلميذ لماذا يكمل تعليمه إذن؟ فهناك طرق أسهل وأسرع.
وزاد بحثنا عن الأفكار السهلة التى تحقق ربح سريع؛ فلماذا أرهق نفسى واخترع اختراعاً؟ فشراء وبيع الأراضى يحقق ربح مضمون، أو الإستثمار فيها وبناءها وبيعها كوحدات سكنية( شقق) يحقق ربح أعلى، وأعتقد لو تم تأجيرها إدارياً ستحقق دخل أكبر، وهكذا فباتت المادة هى الأساس.
وأصبح النجاح يكمن فى الوصول للمال، وقياس نسبة النجاح تقدر بحصاد أكبر نسبة من المال، بصرف النظر عن القيمة التى تُقدمها، فصارت لدينا أبراج كثيرة لا سكان فيها لغلاء أسعارها، وتحول تفكير أصحاب الشهادات العليا للبحث عن الربح الأسرع بالسمسمره، فالمهندس والمحامى يعملون بالسمسرة، والطبيب يعمل بالمقاولات، وأستاذة الجامعة تبيع مستحضرات التجميل؛ والمعلمة تبيع المنظفات والحلل الألمانية فهى تحقق ربح أكثر، أماالشهادة التى حصلنا عليها لم تعد ( تجيب هما) كما يقال أى بلا قيمة!
فماقيمة الشهادة مادامت لا تحقق لى المال الوفير؟! فتم ربط العلم بالمال، وللآسف الشديد الحال تدهور مع الأيام، وانحصر التفكير فى جمع المال وشراء أشهى الطعام وأصيبت الناس بالسمنة، وأصيب العقول بالفساد وتلوث الذوق العام، فصارت المال ينفق فى أشياء أخرى غير العلم مثل تذكرة مبارة كرة قدم أو حفل لمطرب تقف أمامه راقصة تعرى جسدها وتتمايل للذى يرمى عليها النقود.
ومع تقدم السنين أصبح من يجنى المال هو لاعب الكورة أو الراقصة أو الذى يتغنى بالكلام حتى لو كانت الكلمات قذرة وبذيئة، وأصبح الفيلم الذى ينجح هو الذى يحقق إيرادات فائقه حتى لو كان المضمون تافهه! وتبدل اتجاه الشباب لهذا الطريق فلا علم ينفع ولا أخلاق تشفع، والمال وحده هو المتحكم، والناجح هو الذى يجنى المال، بصرف النظر عن شهادته أو أخلاقه وتربيته، فضاعت القيم والمبادىء وانحصر الدين! أفصلوه عن السياسة! السياسة هى الأجدر للحفاظ على المال ونموه وازدياده، أماالدين يقلله ويقلل الإستمتاع بالدنيا الذائلة! وآسفاه على خداعنا!
حقًا إنها لأكبر خدعة اكتشفتها، فالمال ليس هدف فى حد ذاته، والنجاح ليس فى جمع المال، فأنا لا أمزح؛ النجاح ليس فى جمع المال! ذات يوم كان لى حلم كباقى البشر تخيلت نفسى معى المال الوفير؛ وأشترى أشهى الطعام وأفضل العلامات التجارية(البرندات) من ملابس وعطور وغيرها وأقود أغلى السيارت، وفعلت كل ماأشتهى من متاع الدنيا؛ من سفر وزيارة أعجب الأماكن فى رحلات رائعه، ومشاهدة العجائب، وبعد ذلك؟ ماينقصنى؟ أدخلت أولادى مدارس دولية؟ ماذا بعد؟ أشترى لهم العقارات وأضع لهم أرصدة من المال لتأمين مستقبلهم؟ ماذا بعد؟ أعود واستثمر لأزود المال؟ ماذا بعد؟ أعلم ابنى أو ابنتى كيف يحافظا على المال؟ وماذا بعد؟! أين أنا؟!
أين كيانى؟ هل انحصر فى أشهى الطعام؟ أم فى أفضل الملابس؟ أم فى السيارة؟ أم فى رصيدى فى البنوك؟ أنا جمعت المال، وكافحت لجمع المال وحاليًا أعانى للحفاظ عليه، نجحت فى ماذا؟ فى جعل حياتى كالبعير أو التيس؟! فأنا أكل وأشرب وأتزوج وأنجب والفرق بينى وبين التيس هو جمع المال!
أين الأحلام القيمة التى حلمتها فى طفولتى؟ فلنعود للماضى فى وقت كان عندما يسألون الأطفال ماذا تريد أن تكون فى المستقبل؟ كنا نسمع الذى يريد أن يصبح طبيب ليعالج الناس أو ضابط ليقبض على المجرمين وهكذا... حلم هدفه نبيل، أماالمال دوره هو تحقيق الحلم.
فأنت تحتاج للمال لتأكل الطعام لتنمو وتكون بصحة جيده، تحتاج للمال لتتعلم وتدخل المدرسة، لترتدى ملابس تسترك، لتشترى العلاج وتذهب للطبيب عندما تمرض، لتسكن فى بيت ترتاح فيه، وهكذا حتى تكبر وتدخل الكلية التى تؤهلك لتحقيق حلمك، فالمال هو مجرد الوسيلة التى تساعدك لتحقيق حلمك، أماالخدعة التى أوقعنا فيها غيرنا من الكبار أو الإعلام بتصدير أفكار خاطئة جعلتنا نركز على المال ونجعله هدف، فالحلم هو الحصول المال! وأعتقد هذا مايفسر ارتفاع حالات الانتحار فى بعض الدول المقدمة التى لا يعانى سكانها من الفقر، فكل شىء متوافر المال والطعام والجنس، ولكن يفقدون القيمة.
فالإنسان بلاقيمة هو حيوان بعقل عاجز، والمال لايعطيك القيمة التى تحتاجها، فهناك أشياء يعجز المال عن تحقيقها، كالحب والوفاء والإخلاص والصدق والعلم الحقيقى ليس الذى الشهادات التى يتم شراؤها، والرضا أهم وأخطر شىء يعجز المال عن شراءه! فهناك أغنياء يسخطون على الدنيا رغم توافر كل شىء لهم! لهذا يلزم أن نضع المال فى وظيفته الحقيقة، فالمال دوره أن يحافظ عليه لا أن الذى أحافظ عليه، وهدفى هو جعل المال مسخر لتحقيق حلمى، لا أنا التى أكون مسخره لزيادة المال، عليه الخوف على صحتى، لا الخوف من دفع المال ثمن لطبيب سعر كشفه غاليًا! الخوف على عقلى لينضب فأشترى كتاب يغذيه، أفضل من شراء اثنين كيلو من اللحم كعرض بمائة جنيه!
عليه إخراج كل أفكارى من رأسى وإدخال فكرة فكرة وتبديل الفاسدة بفكرة أفضل كما قال ديكورات( نظريقة الشك واليقين)؛ فأنا من جيل تم تسميم عقله بأفكار مشوهه، وللآسف أصبح هذا الجيل تحت يده أجيال جديدة يُفسد فيها، إلا من رحم ربى، فمن الأفكار السامه التفضيل مابين شيئين لهما نفس الدور؛ فنوع الطعام يسد الجوع لا فرق بين فول أو لحمه، الملابس تستر الجسد حتى لو لم تكن (ماركة أو براند) غاليه، البيت هو سكن حتى لو كان فى منطقة بسيطة، أى وسيلة مواصلات تنقلنى لأى مكان ليس شرط أن تكون سيارة فارهه، فالحمار كان يفعل نفس الدور قديمًا، وهكذا فى باقى أمور حياتنا، ولعل أهمها تصحيح معنى النجاح وهو تحقيق حلمى، والحلم هو القيمة التى أختارتها لأفيد نفسى وأفيد الناس؛ فالطبيب نجاحه فى علاج الناس لا فى رفع سعر الكشف، والمعلم نجاحه فى توصيل المعلومة للطلاب لا فى إعطاء المزيد أكافح خصوصية، والمحامى فى الدفاع عن الحق وحده أين كان الحق فى صف من؟
فالنجاح يٌقاس بالقيمة التى تقوم بها، وإياك أن تقول إنه كلام شعارات، فأنا لا أبالغ، والدليل لتتأكد أن المال لاينبغى أن يكون هدف هو إنك ستموت وتتركه، هل سينفعك فى قبرك؟
لن يفيدك المال فى قبرك ولكنه سيفيد من سيورثه من بعدك، أماالعلم الذى علمته للناس لوكنت معلم أو القيمة والعمل الصالح الذى فعلته للناس هو الذى سينفع عندما تدخل القبر، عندما لا ترى غير الظلام وقتما ينصرف الجميع، أين فائدة المال؟ أين المال؟ فلقد تركته لغيرك، لهذا علينا الكفاح والسعى على القيمة التى ستنفعنا فى حياتنا الآخرى(الآخرة)بعد الموت حيث حياة بلاموت.
وأخيراً عليه أن اتذكر دائماً أن المال مجرد وسيلة لتحقيق الأهداف والأحلام، فالمال ليس حلم ولاينبغى أن يكون؛ وعليه ألا اسمح للظروف الصعبة من ضيق ذات اليد وارتفع الأسعار تُنسينى ذلك، فعندما أكافح للوصول لهدفى هذا أمر منطقى.
أماالكفاح لقلة المال فقط فمثلى مثل الحيوان الذى يكافح ليصطاد فريسه ويسد جوعه ثم يستريح؛ يلزم عليه برمجة عقلى على أن "المال وسيلة حتى لو عانيت للحصول على المال فذلك لأعود وأستخدمه فى تحقيق هدفى الأساسى"، فلا يصح أن ارتاح واستكن بعد حصاد المال، لأن ربح المال ليست النهاية ولكنها البداية؛ بداية تحقيق هدف سامى، وإلا لو نسيت سأصبح تيس معاه فلوس.
بقلم: منة الله بنت محمد
تعليقات
إرسال تعليق